سورة البقرة - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


ثم ذكر أمراً آخر هو أبين في عنادهم وأنهم إنما هم مع الهوى فقال مقبلاً على خطابهم لأنه أشد في التقريع {وإذ أخذنا} وأظهره في مظهر العظمة تصويراً لمزيد جرأتهم {ميثاقكم} على الإيمان والطاعة {ورفعنا فوقكم الطور} الجبل العظيم الذي جعلناه زاجراً لكم عن الرضى بالإقامة في حضيض الجهل ورافعاً إلى أوج العلم وقلنا لكم وهو فوقكم {خذوا ما آتيناكم} من الأصول والفروع في هذا الكتاب العظيم {بقوة}.
ولما كانت فائدة السماع القبول ومن سمع فلم يقبل كان كمن لم يسمع قال: {واسمعوا} وإلا دفناكم به، وذلك حيث يكفي غيركم في التأديب رفع الدرة والسوط عليه فينبعث للتعلم الذي أكثر النفوس الفاضلة تتحمل فيه المشاق الشديدة لما له من الشرف ولها به من الفخار؛ ولما ضلوا بعد هذه الآية الكبرى وشيكاً مع كونها مقتضية للثبات على الإيمان بعد أخذ الميثاق الذي لا ينقضه ذو مروءة فكان ضلالهم بعده منبئاً عن أن العناد لهم طبع لازم فكانوا كأنهم عند إعطاء العهد عاصون قال مترجماً عن أغلب أحوال أكثرهم في مجموع أزمانهم وهو ما عبر عنه في الآية السالفة بقوله: {ثم توليتم} [البقرة: 83] مؤذناً بالغضب عليهم بالإعراض عن خطابهم بعد إفحامهم بالمواجهة في تقريعهم حيث ناقضوا ما قال لهم من السماع النافع لهم فأخبروا أنهم جعلوه ضاراً {قالوا سمعنا} أي بآذاننا {وعصينا} أي وعملنا بضد ما سمعنا؛ وساقه لغرابته مساق جواب سائل كأنه قال: رفع الطور فوقهم أمر هائل جداً مقتض للمبادرة إلى إعطاء العهد ظاهراً وباطناً والثبات عليه فما فعلوا؟ فقيل: بادروا إلى خلاف ذلك {وأشربوا} فأعظم الأمر بإسناد الفعل إليهم ثم إلى قلوبهم، وهو من الإشراب وهو مداخلة نافذة سائغة كالشراب وهو الماء المداخل كلية الجسم للطافته ونفوذه- قاله الحرالي: وقال الكشاف: وخلط لون بلون {في قلوبهم العجل} أي حبه وحذفه للإيذان بشدة التمكن بحيث صار المضاف هو المضاف إليه {بكفرهم} وفيه إشارة إلى أن من أعرض عن امتثال الأمر استحق الإبعاد عن مقام الأنس.
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في المفتاح الباب الثامن في وجوه بيان الإقبال والإعراض في القرآن: اعلم أن كل مربوب يخاطب بحسب ما في وسعه لقنه وينفى عنه ما ليس في وسعه لقنه فلكل سن من أسنان القلوب خطاب إقبال بحسب لقنه، وربما كان له إباء عن بعض ذلك فيقع عنه الإعراض بحسب بادي ذلك الإباء، وربما تلافته النعمة فعاد الإقبال إليه بوجه ما دون صفاء الإقبال الأول، وربما تناسقت الإقبالات مترتبة فيعلو البيان والإفهام بحسب رتبة من توجه إليه الإقبال، ويشتد الإدبار بحسب بادي الإدبار، وربما تراجع لفف البيان فيها بعضها على بعض، فخطاب الإقبال على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم إفهام في القرآن {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} [الفرقان: 45] الآية {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً} [الفرقان: 47] الآية: تفاوت الخطابين بحسب تفاوت المخاطبين، {أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما} [الأنبياء: 30] أعرض عنهما الخطاب ونفى عنهم ما ليس في حالهم رؤيته. {خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم} خاطبهم وأمرهم، فلما عصوا أعرض وجه الخطاب عنهم ثم تلافاهم بخطاب لسان نبي الرحمة لهم، واستمر إعراضه هو تعالى عنهم في تمادي الخطاب {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1] تنزل الخطاب في الرتبتين ليبين للأعلى ما يبينه للأدنى {ذلك خير لكم وأطهر} [المجادلة: 12] وهذا الباب عظيم النفع في الفهم لمن استوضح بيانه والتفاف موارده في القرآن- انتهى.
والدليل الوجودي على إشرابهم حب العجل مسارعتهم إلى عبادة ما يشبهه في عدم الضر والنفع والصورة، ففي السفر الرابع من التوراة في قصة بالاق ملك الأمورانيين الذي استنجد بلعام بن بعور ما نصه: وسكن بنو إسرائيل ساطيم وبدأ الشعب أن يسفح ببنات مواب ودعين الشعب إلى ذبائح آلهتهم وأكل الشعب من ذبائحهم وسجدوا لآلهتهم وكمل بنو إسرائيل العبادة بعليون الصنم واشتد غضب الله على بني إسرائيل- انتهى.
ولما بين سبحانه عظيم كفرهم وعنادهم مع وقاحتهم بادعاء الإيمان والاختصاص بالجنان أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم على وجه التهكم بهم مؤكداً لذمهم بالتعبير بما وضع لمجامع الذم فقال: {قل بئسما} أي بئس شيئاً الشيء الذي {يأمركم به} من الكفر {إيمانكم} هذا الذي ادعيتموه؛ وأوضح هذا التهكم بقوله على سبيل الفرض والتشكيك {إن كنتم مؤمنين} على ما زعمتم، فحصل من هذا أنهم إما كاذبون في دعواهم، وإما أنهم أجهل الجهلة حيث عملوا ما لا يجامعه الإيمان وهم لا يعلمون.
ولما نهضت الأدلة على أنه لا حظ لهم في الآخرة غير النار وذلك نقيض دعواهم أنها لهم فقط في قولهم {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} [البقرة: 80] تفسيرهم ذلك بأنها سبعة أيام وأنا نخلفهم فيها ختم سبحانه ذلك بدليل قطعي بديهي فقال: {قل إن كانت} وقدم الجار إشعاراً بالاختصاص فقال: {لكم الدار الآخرة} أي كما زعمتم، وميزها بقوله: {عند الله} الذي له الكمال كله وبين المراد بقوله: {خالصة} ولما ذكر الخلوص تأكيداً للمعنى زاده تأكيداً بقوله: {من دون الناس} أي سائرهم لا يشرككم فيها أحد منهم من الخلوص وهو تصفية الشيء مما يمازجه في خلقته مما هو دونه- قاله الحرالي. {فتمنوا الموت} لأن ذلك علم على صلاح حال العبد مع ربه وعمارة ما بينه وبينه ورجائه للقائه.
قال الحرالي: فعلى قدر نفرة النفس من الموت يكون ضعف منال النفس مع المعرفة التي بها تأنس بربها فتتمنى لقاءه وتحبه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، يقع ذلك لعامة المؤمنين عند الكشف حال الغرغرة، ولخاصة المؤمنين في مهل الحياة لأنهم لو كشف لهم الغطاء لم يزدادوا يقيناً، فما هو للمؤمن بعد الكشف من محبة لقاء الله فهو للموقن في حياته ويقظته، لكمال الكشف له مع وجود حجاب الملك الظاهر؛ ولذلك ما مات نبي حتى يخير فيختار لقاء الله، لتكون وفادته على الله وفادة محب مبادر، ولتقاصر المؤمن عن يقين النبي يتولى الله الخيرة في لقائه، لأنه وليه، ومنه ما ورد: «ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته ولا بد له منه» ففي ضمن ذلك اختيار الله للمؤمن لقاءه، لأنه وليه يختار له فيما لا يصل إليه إدراكه انتهى.
ثم سجل عليهم بالكذب فقال: {إن كنتم صادقين} أي معتقدين للصدق في دعواكم خلوصها لكم، ولما كان التقدير: فقال لهم فما تمنوه؟ عطف عليه قوله- إخباراً بالغيب قطعاً للعناد مؤكداً لأن ادعاءهم الخلوص أعظم من ادعائهم الولاية كما في سورة الجمعة: {ولن يتمنوه أبداً}، ثم ذكر السبب في عدم التمني فقال: {بما قدمت} وهو من التقدمة وهي وضع الشيء قداماً وهو جهة القدم الذي هو الأمم والتجاه أي قبالة الوجه- قاله الحرالي: وعبر باليد التي بها أكثر الأفعال إشارة إلى أن أفعالهم لقباحتها كأنها خالية عن القصد فقال: {أيديهم} أي من الظلم وإلى ذلك أشار قوله: عاطفاً على ما تقديره: فالله عليم بذلك؟ {والله} الذي لا كفؤ له {عليم بالظالمين} أي كلهم حيث أظهر تنبيهاً على الوصف الموجب للحكم وتعميماً وتهديداً.
ولما بين أنهم لا يتمنونه أثبت لهم ما هو فوق ذلك من تمني الضد الدال على علمهم بسوء منقلبهم فقال: {ولتجدنهم} أي بما تعلم من أحوالهم مما منه الوجدان. وهو إحساس الباطن بما هو فيه والإصابة أيضاً لما له علقة الباطن، كأنه فيه {أحرص} صيغة مبالغة من الحرص، وهو طلب الاستغراق فيما يختص فيه الحظ- قاله الحرالي: {الناس على حياة} على أي حالة كانت وهم قاطعون بأنه لا يخلو يوم منها عن كدر فإنهم يعلمون أنها وإن كانت في غاية الكدر خير لهم مما بعد الموت {ومن} أي وأحرص من {الذين أشركوا} الذين لا بعث عندهم على الحياة علماً منهم بأنهم صائرون إلى العذاب الدائم بالسيئات المحيطة والشرك. قال الحرالي: إسناد الأمر المختص بواحد إلى من ليس له معه أمر- انتهى.
ثم بين مقدار ما يتمنونه فقال: {يود} من الود وهو صحة نزوع النفس للشيء المستحق نزوعها له- قاله الحرالي. {أحدهم} أي أحد من تقدم من اليهود والمشركين بجميع أصنافهم، أو من اليهود خاصة، أو من المشركين فتكون ودادة اليهود من باب الأولى. قال الحرالي: وهو نحو من خطاب القرآن لا يصل إليه إبلاغ الخلق {لو يعمر} من التعمير وهو تمادي العمر كأنه تكرار، والعمر أمد ما بين بدو الشيء وانقطاعه- قاله الحرالي. {ألف سنة} خوفاً من الموت أو ما بعده، والألف كمال العدد بكمال ثالثة رتبة؛ والسنة أمد تمام دورة الشمس وتمام ثنتي عشرة دورة القمر- قاله الحرالي. وهذا المعنى وإن كان موجوداً في الحول والعام والحجة غير أن مأخذ الاشتقاق ملاحظ في الجملة، فلبلاغة القرآن لا يطلق واحد من هذه الألفاظ إلا فيما يناسب السياق من أصل اشتقاق هذه الألفاظ، فهذا السياق لما كان المراد به ذمهم بتهالكهم على بقائهم في الدنيا على أي حالة كانت علماً منهم بأنها ولو كانت أسوأ الأحوال خير لهم مما بعد الموت لتحقق شقائهم عبر بما منه الإسنات وهو القحط وسوء الزمان. أو ما منه الدوران الذي فيه كد وتعب إن كان أصلها من سنا يسنو إذا دار حول البئر قال السهيلي في الروض: وقد تسمى السنة داراً في الخبر: إن بين آدم ونوح ألف دار- أي سنة، ثم قال: فتأمل هذا فإن العلم بتنزيل الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها يفتح باباً من العلم بإعجاز القرآن والله المستعان. {وما هو} أي تعميره {بمزحزحه} والزحزحة إبعاد الشيء المستثقل المترامي لما يبعد عنه- قاله الحرالي: {من العذاب} أي زحزحة مبتدأة من العذاب، وعبر بمن دون عن إعلاماً بأنهم لم يفارقوا العذاب دنيا ولا آخرة وإن لم يحسوا به في الدنيا، ثم فسر الضمير بقوله: {أن يعمر} إنما تزحزحه الطاعة المقرونة بالإيمان الصحيح الذي ليس فيه تفرقة. ولما كان التقدير: لأنهم يعملون في أعمارهم الأعمال السيئة المحيطة، عطف عليه قوله: {والله} الذي له الأمر كله {بصير بما يعملون}.
ولما ذكر عداوتهم لأخص البشر واجتراءهم عليه بالتكذيب والقتل، وختم ذلك بعداوتهم لأكمل الخلق وأخصهم حسداً لنزول هذا الذكر عليه عبارة ثم إشارة بما رمزه إلى نصبهم لقتله وأنهى ذلك بأنه لا محيص لهم من العذاب، لأنه بصير بأعمالهم الموجبة له ذكر ما هو من دقيق أعمالهم في عراقتهم في الكفر بعداوتهم لخواص الملائكة الذين هم خير محض لا حامل أصلاً على بغضهم إلا الكفر، وبدئ بذكر المنزل للقرآن، لأن عداوتهم للمنزل عليه لأجل ما نزل عليه عداوة لمنزله، لأنه سبب ما كانت العداوة لأجله، فقال آمراً له صلى الله عليه وسلم إعلاماً بما أبصره من خفي مكرهم القاضي بضرهم: {قل} أو يقال- وهو أحسن وأبين وأمتن: ولما أمره صلى الله عليه وسلم بما دل على كذبهم في ادعائهم خلوص الآخرة لهم وأخبر بأنه لا بد من عذابهم أمره بدليل آخر على كلا الأمرين، فعلى تقدير كونه دليلاً على الأول يكون منسوقاً على {قل} الأولى بغير عاطف إشعار بأن كلاًّ من الدليلين كاف فيما سيق له: على تقدير كونه دليلاً على الثاني الذي خصه يكون جواباً لمن كأنه قال: لم لا يزحزحهم عن التعمير عن العذاب؟ {قل} أي لهؤلاء الذين ادعوا أن دار الملك خالصة لهم وهم يعادون خواص جنده {من} وهي اسم مبهم يشمل الذوات العاقلة آحاداً وجموعاً واستغراقاً- قاله الحرالي: {كان عدواً لجبريل} أي فإنه لا يضر إلا نفسه، لأنه لا يبلغ ضره بوجه من الوجوه ولعداوته بعداوته له لله الذي خصه بقربه واختياره لرسالته، فكفر حينئذ هذا المعادي له بجميع كتب الله ورسله؛ وجبريل قال الحرالي: يقال هو اسم عبودية، لأن إيل اسم من أسماء الله عز وجل في الملأ الأعلى وهو يد بسط لروح الله في القلوب بما يحييها الله به من روح أمره إرجاعاً إليه في هذه الدار قبل إرجاع روح الحياة بيد القبض من عزرائيل عليه السلام- انتهى.
ثم علل هذا الخبر المحذوف بما أرشد إليه فقال: {فإنه} أي جبريل {نزله} أي القرآن الذي كفروا به، لحسدهم للذي أنزل عليه بعد ما كانوا يستفتحون به. الآتي بما ينفعهم، الداعي إلى ما يصلحهم فيرفعهم، ولما كان المراد تحقيق أنه كلام الله وأنه أمر بإبلاغه جمع بين {قل} وبين {على قلبك} أي وهو أكمل القلوب، دون أن يقال: على قلبي- المطابق لقل؛ وأداة الاستعلاء دالة على أن المنزل تمكن في القلب فصارت مجامعه مغمورة به، فكان مظهراً له {بإذن الله} الملك الأعظم الذي له الأمر كله. فليس لأحد إنكار ما أذن فيه. والنازل به لم يتعد شيئاً مما أمر به؛ والإذن رفع المنع وإيتاء المكنة كوناً وخلقاً ما لم يمنعه حكم تصريف- قاله الحرالي: {مصدقاً لما بين يديه} من كتب الله التي أعظمها كتابهم. فكانوا أحق الناس بالإيمان به وكان جبريل عليه السلام أحق الملائكة بمحبتهم له لإنزاله، وكان كفرهم به كفراً بما عندهم، فلا وجه لعداوتهم له؛ والبين حد فاصل في حس أو معنى- قاله الحرالي: {وهدى} إلى كل خير، لأنه بيان ما وقع التكليف به من أفعال القلوب والجوارح {وبشرى} أي ببيان الثواب {للمؤمنين} أي الذين لهم الإيمان وصف لازم، فلا يفرقون بين كتب الله ولا بين رسله، بل حيثما قادهم الحق انقادوا؛ فلا يدخل في ذلك الذين آمنوا بألسنتهم {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89] ولا من علم الله منه ذلك ولو كان قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم الله أعلم بما كانوا عاملين؛ فلو أنهم مؤمنون لما عادوا من نزل به بشرى لهم ولكنهم كفرة فهم في العذاب، والآخرة ليست لهم بل عليهم.
ولما كانت عداوة واحد من الحزب لكونه من ذلك الحزب عداوة لجميع ذلك الحزب تلاه بقوله: {من كان عدواً لله} ذي الجلال والإكرام لعداوته واحداً من أوليائه لكونه من أوليائه {وملائكته} النازلين بأمره {ورسله} من البشر وغيرهم، وخص من بينهم بالذكر من حباه بالفضل فقال: {وجبريل وميكال}، فإنه قد كفر فأهلك نفسه بكفره، وعلى ذلك دل قوله: {فإن الله} الملك الأعلى: {عدو للكافرين} حيث أظهر ولم يضمر، وعبر بالوصف اللازم صرفاً للخطاب عمن يتعظ منهم فيرجع فلا تلحقه المعاداة لذلك؛ وميكال يقال هو اسم عبودية أيضاً وهو يد بسط للأرزاق المقيمة للأجسام كما أن إسرافيل يد بسط للأرواح التي بها الحياة- قاله الحرالي.
ولما فرغ من ترغيبهم في القرآن بأنه من عند الله وأنه مصدق لكتابهم وفي جبريل بأنه الآتي به بإذن الله ومن ترهيبهم من عداوته أتبعه مدح هذا القرآن وأنه واضح الأمر لمريد الحق وإن كفر به منهم أو من غيرهم فاسق أي خارج عما يعرف من الحق فإنه بحيث لا يخفى على أحد فقال تعالى- عطفاً على قوله: {فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97]، أو قوله: {ولقد جاءكم موسى بالبينات} [البقرة: 92]، أو على ما تقديره: فلقد بان بهذا الذي نزله جبريل عليه السلام أن الآخرة ليست خالصة لهم وأنهم ممن أحاطت به خطيئته لكفره-: {ولقد أنزلنا} بعظمتنا في ذلك وغيره {إليك} وأنت أعظم الخلق {آيات بينات} في الدلالة على صدقك وصحة أمرك، والبينة الدلالة الفاصلة بين القصة الصادقة والكاذبة، ففسقوا بكفرهم بها {وما يكفر بها} منهم ومن غيرهم {إلا الفاسقون} الذين الفسق لهم صفة لازمة، وعن الحسن أن الفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي وقع على أعظمه من كفر وغيره وفي ذلك رجوع إلى وصف الكتاب الذي هو مقصود السورة.
ولما أنكر عليهم أولاً ردهم للرسل لأمرهم بمخالفة الهوى في قوله: {أفكلما جاءكم رسول} [البقرة: 87] وأتبعه بما يلائمه إلى أن ختم بأن آيات هذا الرسول من الأمر البين الذي يشهد به كتابهم وقد أخذ عليهم العهد باتباعه كما أرشد إلى قوله تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى} [البقرة: 38] الآية، أنكر عليهم ثانياً كفرهم بما أتى به الرسل بقوله: {أو كلما عاهدوا عهداً نبذه} أي طرحه محتقراً له {فريق منهم} أي ناس شأنهم السعي في الفرقة. ولما كان هذا متردداً بين التقليل والتكثير لتردد التنوين بين التعظيم والتحقير رد احتمال التقليل بقوله: {بل} أي وليس الفريق الكافر بالنبذ أقلهم بل {أكثرهم لا يؤمنون} حالاً ولا مآلاً.


ثم أتبع هذا الإنكار ذكر الكتاب والرسول كما فعل في الإنكار الأول غير أنه صرح هنا بما طواه هناك فقال: {ولما جاءهم رسول} أي عظيم محيطة دعوته بما أشعر به الاسم الأعظم في قوله: {من عند الله} أي الملك الذي له جميع الملك والأمر {مصدق لما معهم} لكونه أتى بكتاب محقق أنه من عند الله لإعجاز نظمه وتصديق معناه لكتابهم {نبذ} أي رمى رمي استخفاف {فريق من الذين أوتوا الكتاب} الأول {كتاب الله} الملك الأعلى الذي أخذ عليهم فيه الميثاق على لسان نبيهم باتباع النبي الأمي أسوأ النبذ بجعله لاستخفافهم به {وراء ظهورهم} بتركهم العمل به وإن حلوه بالذهب ووضعوه على الكراسي بين أيديهم. وأشعر بعنادهم بقوله: {كأنّهم لا يعلمون} ولما كانت سنة الله جارية بأنه ما أمات أحد سنة إلا زاد في خذلانه بأن أحيى على يده بدعة أعقبهم نبذهم لكلام الله أولى الأولياء إقبالهم على كلام الشياطين الذين هم أعدى الأعداء فقال تعالى: {واتبعوا ما تتلوا} أي تقرأ أو تتبع، وعبر بالمضارع إشارة إلى كثرته وفشوه واستمراره {الشياطين على ملك} أي زمن ملك {سليمان} من السحر الذي هو كفر. قال الحرالي: من حيث إن حقيقته أمر يبطل بذكر اسم الله ويظهر أثره فيما قصر عليه من التخييل والتمريض ونحوه بالاقتصار به من دون اسم الله الذي هو كفر- انتهى. وكأن السحر كان في تلك الأيام ظاهراً عالياً على ما يفهمه التعبير بعلى، وأحسن من هذا أن يضمن {تتلوا} تكذب، فيكون التقدير: تتلو كذباً على ملكه، كما أشار إليه ما رواه البغوي وغيره عن الكلبي وكذا ما روي عن السدي، وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتاب الزينة: وروى في الحديث: «أنه لما مات سليمان عليه السلام عمدت الشياطين فكتبت أصناف السحر: من كان يحب أن يبلغ كذا فليفعل كذا، وجعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم سليمان وكتبوا في عنوانه: هذا كتاب آصف بن برخيا الصديق لسليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم، ثم دفنوه تحت كرسيه؛ فاستخرجه بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان ملك سليمان إلا بهذا، فأفشوا السحر في الناس، فليس هو في أحد أكثر منه في يهود» انتهى.
وسليمان- على ما ذكر في أول إنجيل متّى أثناء إنجيل لوقا- هو ابن داود بن لَسَّى ابن عونيد بن باعاز بن سلمون بن يصون بن عميناداب بن أرام بن يورام بن حصرون بن فارض بن يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام والحاصل أنهم مع تركهم للكتب المصدقة لما معهم، الكفيلة بكل هدى وبركة، الآتية من عند الله المتحبب إلى عباده بكل جميل، على ألسنة رسله الذين هم أصدق الناس وأنصحهم وأهداهم، لا سيما هذا الكتاب المعجز الذين كانوا يتباشرون بقرب زمن صاحبه، اتبعوا السحر الذي هو أضر الأشياء وأبشعها، الآتي به الشياطين الذين هم أعدى الأعداء وأفظعها، وأعجب ما في ذلك أنهم نسبوا السحر إلى سليمان عليه السلام كذباً وفجوراً وكفروه به ثم كانوا هم أشد الناس تطلباً له ومصاحبة علماً وعملاً وأكثر ما يوجد فيهم، فكانوا بذلك شاهدين على أنفسهم بالكفر؛ ومن المحاسن أيضاً أنه لما كان قوله:
{ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} [البقرة: 87] وما بعده في الكتب والأنبياء والرسل من البشر والملائكة كانت فذلكته أن الكفرة من أهل الكتاب نبذوا ذلك كله ونابذوه وأقبلوا على السحر الذي كان إبطاله من أول معجزات نبيهم وأعظمها؛ فهو أشد شيء منافاة لشرعهم مع علمهم بأن ذلك يضرهم في الدارين ولا ينفعهم.
ولما اعتقد أهل الكتاب بعد موت سليمان عليه السلام أن السحر منه، وأن انتظام ملكه على الإنس والجن والطير والوحش والريح إنما كان به، نفى الله تعالى ذلك عنه بقوله: {وما كفر سليمان}، قال الحرالي: يقال هو من السلامة، فإنه من سلامة صدره من تعلقه بما خوله الله تعالى من ملكه {هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر} [النمل: 40] وهو واحد كمال في ملك العالم المشهود من الأركان الأربعة وما منها من المخلوقات- انتهى. أي ما وقع منه كفر ما فضلاً عن أن يكون بالسحر الذي هو أبعد الأشياء عن آيات الأنبياء {ولكن الشياطين كفروا}.
ثم بين كفرهم بقوله: {يعلمون الناس} أي المضطرين الذين لم يصلوا إلى سِنّ الذين آمنوا {السحر} أي الذي ولدوه هم بما يزينونه من حاله ليعتقد أنه مؤثر بنفسه ونحو ذلك، كما أن الأنبياء وأتباعهم يعلمون الناس الحق بما يبينونه من أمره. والسحر قال الحرالي: هو قلب الحواس في مدركاتها عن الوجه المعتاد لها في صحتها عن سبب باطل لا يثبت مع ذكر الله عليه. وقال الكرماني: أمر خارق للعادة صادر عن نفس شريرة لا تتعذر معارضته. وقال الأصفهاني: اختلفوا في تعلمه على ثلاثة أوجه: أحدها أنه حرام، الثاني أنه مكروه، الثالث أنه مباح، والحق أنه إن كان تعلمه للعمل فهو حرام، وإن كان لتوقيه وعدم الاغترار به فهو مباح، وقال: والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس، فإن التناسب شرط في التضام والتعاون وبهذا يميز الساحر عن الولي والنبي؛ وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير حرام، وتسميته سحراً على التجوز لما فيه من الدقة، لأنه في الأصل لما خفي سببه.
وقوله: {وما}، أي واتبعوا أو ويعلمون {ما أنزل على الملكين} قال الحرالي: فيه إنباء بأن هذا التخييل ضربان: مودع في الكون هو أمر الشياطين، ومنزل من غيب هو المتعلم من الملكين؛ وقال: {ببابل} تحقيقاً لنزولهما إلى الأرض {هاروت وماروت} بدل من الملكين، كأنهما لما كانا مع الحاجة إليهما لا يحتاجان إلى أحد وُصفا أيضاً بكونهما ملكين- بكسر اللام، وعبارة الحرالي: ملَكان جعلا ملِكين في الأرض، والآية من إظهار الله للملائكة أفضل الخليفة. ثم بين نصيحة الملكين بقوله: {وما} فأنبأ أن التقدير: وما كفر الملكان كما كفر الشياطين فإنهما ما {يعلمان}، وزيادة من في قوله: {من أحد} لتأكيد الاستغراق {حتى يقولا إنما نحن فتنة} أي على صورة الاختبار من الله لعباده، فإنه يعلم نبأ من يختار السحر لما فيه من النفع العاجل على أمر النبوة فيكفر، ومن يعلم حقيقته لئلا يقع فيه وهو لا يشعر ثم يتركه إقبالاً على دين الله؛ ووحد والمخبر عنه اثنان لأنها مصدر وهو لا يثنى ولا يجمع. قال الحرالي: وأصل معناها من فتن الذهب وهو تسخيره ليظهر جوهره ويتخلص طيبه من خبيثه- انتهى. {فلا تكفر} بالعمل بما نعلمكه، فإن العمل به كفر، أو باعتقاد أنه حق مغن عما جاء عن الله، أو مؤثر بنفسه {فيتعلمون منهما ما يفرقون به} مخالفة للملكين في النهي عن ذلك، وذكر الفرقة في أشد الاتصال ليفهم منه ما دونه فقال: {بين المرء وزوجه}، والمرء اسم سن من أسنان الطبع يشارك الرجل به المرأة ويكون له فيه فضل ما ويسمى معناه المروة- قاله الحرالي.
ولما ذكر السبب القريب للضرر رده إليه ترقية للذهن الثاقب إلى أعلى المراتب وصوناً له عن اعتقاده ما لا يناسب فقال: {وما هم بضارين} وهو من الضر- بالفتح والضم- وهو ما يؤلم الظاهر من الجسم وما يتصل بمحسوسه، في مقابلة الأذى وهو إيلام النفس وما يتصل بأحوالها، وتشعر الضمة في الضر بأنه عن علو وقهر، والفتحة بأنه ما يكون عن مماثل ونحوه، وقل ما يكون عن الأدنى إلا أذى ومنه {لن يضروكم إلا أذى} [آل عمران: 111] قاله الحرالي: {به من أحد}. ولما أكد استغراقه بضروب من التأكيد تلاه بمعيار العموم فقال: {إلا بإذن الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ولا كفؤ له، وفيه إعلام لهم بأن ضرره لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الضرر الضعيف حيث سحره لبيد بن الأعصم إنما هو كضرر غيره من الأسباب التي قد تخفى فيضاف الأمر في ضررها إلى الله تعالى، وقد تعرف فيضاف الضرر إليها كما كان يحصل لغيره من إخوانه من الأنبياء منهم ومن غيرهم، والعلم حاصل بأن المؤثر في الجميع في الحقيقة هو الله تعالى، وسيأتي عند قوله تعالى:
{وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها} [الأنعام: 97] في سورة الأنعام ما ينفع استحضاره هنا.
ولما كان هذا الذي تقدم وإن كان للعامل به نفع على زعمه فضره أكبر من نفعه اتبعه قسماً آخر ليس للعامل به شيء غير الضر؛ فليس الحامل على تعلمه إلا إيثاراً للحاق بإبليس وحزبه فقال: {ويتعلمون}، أي من السحر الذي ولده الشياطين لا من الملكين {ما يضرهم} لأن مجرد العمل به كفر أو معصية ثم حقق أنه ضرر كله لا شائبة للنفع فيه بقوله: {ولا ينفعهم} لأنه لا تأثير له أصلاً، والنفع وصول موافق الجسم الظاهر وما يتصل به في مقابلة الضر، ولذلك يخاطب به الكفار كثيراً لوقوع معنيهما في الظاهر الذي هو مقصدهم من ظاهر الحياة الدنيا- قاله الحرالي.
ثم أتبعه ما يعرف أنهم ارتكبوه على علم فقال محققاً مؤكداً: {ولقد علموا}، بياناً لأنهم أسفه الناس {لمن اشتراه} أي آثره على ما يعلم نفعه من الإيمان {ما له في الآخرة} الباقية الباقي نفعها {من خلاق} أي نصيب موافق أصلاً، والخلاق الحظ اللائق لمن يقسم له النصيب من الشيء كأنه موازن به خلق نفسه وخلق جسمه- قاله الحرالي.
ثم جمع لهم المذامّ على وجه التأكيد فقال: {ولبئس ما شروا}، أي باعوا على وجه اللجاجة {به أنفسهم} إشارة إلى أنه مما أحاط بهم فاجتثت نفوسهم من أصلها فأوجب لهم الخلود في النار، ثم قال بعد إثبات العلم لهم: {لو كانوا يعلمون}، أي لو كان لهم قابلية لتلقي واردات الحق، إشارة إلى أن هذا لا يقدم عليه من له أدنى علم، فعلمهم الذي أوجب لهم الجرأة على هذا عدم بل العدم خير منه.
ولما بين ما عليهم فيما ارتكبوه من المضار اتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال: {ولو أنهم آمنوا} أي بما دعوا إليه من هذا القرآن، ومن اعتقاد أن الفاعل في كل شيء إنما هو الله لا السحر {واتقوا} ما يقدح في الإيمان من الوقوف مع ما كان حقاً فنسخ من التوراة فصار باطلاً، ومن الإقدام على ما لم يكن حقاً أصلاً من السحر لأثيبوا خيراً مما تركوا، لأن من ترك شيئاً عوضه الله خيراً منه؛ هكذا الجواب ولكنه عبر عنه بما يقتضي الثبوت والدوام والشرف إلى غير ذلك مما يقصر عنه الأذهان من بلاغات القرآن فقال: {لمثوبة} صيغة مفعلة من الثواب وهو الجزاء بالخير، وفي الصيغة إشعار بعلو وثبات- قاله الحرالي، وشرفها بقوله: {من عند الله} الذي له جميع صفات الكمال، وزادها شرفاً بقوله: {خير}، مع حذف المفضل عليه.
قاله الحرالي: وسوى بين هذه المثوبة ومضمون الرسالة في كونهما من عند الله تشريفاً لهذه المثوبة وإلحاقاً لها بالنمط العلي من علمه وحكمته ومضاء كلمته- انتهى. وهذه المثوبة عامة لما يحصل في الدنيا والأخرى من الخيرات التي منها ما يعطيه الله لصالحي عباده من التصرف بأسماء الله الحسنى على حسب ما تعطيه مفهوماتها من المنافع، ومن ذلك واردات الآثار ككون الفاتحة شفاء وآية الكرسي حرز من الشيطان ونحو ذلك من منافع القرآن والأذكار والتبرك بآثار الصالحين ونحوه.
ثم أكد الخبر بأن علمهم جهل بقوله: {لو كانوا يعلمون} وقال الحرالي: فيه إشعار برتبة من العلم أعلى وأشرف من الرتبة التي كانت تصرفهم عن أخذ السحر، لأن تلك الرتبة تزهد في علم ما هو شر وهذه ترغب في منال ما هو خير؛ وفيه بشرى لهذه الأمة بما في كيانها من قبول هذا العلم الذي هو علم الأسماء ومنافع القرآن يكون لهم عوضاً من علم السيميا الذي هو باب من السحر، وعساه أن يكون من نحو المنزل على الملكين، قال صلى الله عليه وسلم: «من اقتبس علماً من النجوم اقتبس باباً من السحر، زاد ما زاد».
وحقيقة السيميا أمر من أمر الله أظهر آثاره في العالم الأرضي على سبيل أسماء وأرواح خبيثة من مواطن الفتن في العلويات من النيرات والكواكب والصور، وما أبداه منه في علوم وأعمال لا يثبت شيء منه مع اسمه تعالى، بل يشترط في صحته إخلاؤه عن اسم الله وذكره والقيام بحقه وصرف التحنثات والوجهة إلى ما دونه، فهو لذلك كفر موضوع فتنة من الله تعالى لمن شاء أن يفتنه به، حتى كانت فتنة اسم السيميا من هدى الاسم بمنزلة اسم اللات والعزى من هداية اسم الله العزيز، ولله كلية الخلق والأمر هدى وإضلالاً إظهاراً لكلمته الجامعة الشاملة لمتقابلات الأزواج التي منتهاها قسمة إلى دارين: دار نور رحماني من اسمه العزيز الرحيم، ودار نار انتقامي من اسمه الجبار المنتقم {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} [الروم: 14].
ولما جعل سبحانه من المضرة في السحر ونحوه كان من المثوبة لمن آمن واتقى من هذه الأمة سورة الفلق والناس والمعوذتان حرزاً وإبطالاً وتلقفاً لما يأفك سحر الساحرات عوضاً دائماً باقياً لهذه الأمة من عصا موسى، فهما عصا هذه الأمة التي تلقف ما يأفك سحر الساحرات عوضاً دائماً بما فيهما من التعويذ الجامع للعوذة من شر الفلق الذي من لمحة منه كان السحر مفرقاً، فهما عوذتان من وراء ما وراء السحر ونحوه، وذلك من مثوبة الدفع مع ما أوتوا من مثوبة النفع، ويكاد أن لا يقف من جاءه هذه الآية لهذه الأمة عند غاية من منال الخيرات ووجوه الكرامات- انتهى.
ولما كان من الحق كما قال الحرالي إجراء الأمور على حكم ما أثبتها الحق لأنها بذلك حق هو مثال للحق المبين وصرفها إلى من لم يثبتها الحق في حيزه إفك وقلب عن وجهه فهو خيال باطل هو في باب الرأي بمنزلة السحر في الحس فهو خيال لما صحة النسبة فيه مثال اتبع الآيات الذامة للسحر الحقيقي التنبيه على السحر المجازي الذي حيلوا به الخير وقصدوا به الشر ليكون النهي عنه نهياً عن الأول بطريق الأولى فقال ملتفتاً عن ذكرهم إلى خطاب المؤمنين الذي هو أخص من {يا بني إسرائيل} الأخص من {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] {يا أيها الذين آمنوا}، أي أقروا بالإيمان صدقوا إقراركم به بأن {لا تقولوا} للنبي صلى الله عليه وسلم: {راعنا} التي تقصدون بها الرعاية والمراقبة لمقصد الخير وخفض الجانب، فاغتنمها اليهود لموافقة كلمة سيئة عندهم فصاروا يلوون بها ألسنتهم ويقصدون بها الرعونة وهي إفراط الجهالة فنهاهم عن موافقتهم في القول منعاً للصحيح الموافق في الصورة لشبهه من القبيح وعوضهم منها ما لا يتطرق إليه فساد فقال: {وقولوا انظرنا} فأبقى المعنى وصرف اللفظ. قال الحرالي: ففيه إلزام تصحيح الصور لتطابق تصحيح المقاصد وليقع الفرق بين الصورتين كما وقع الفرق بين المعنيين فهي آية فرقان خاصة بالعرب. قال الأصفهاني: وهذا النهي اختص بهذا الوقت، قال الواحدي لإجماع الأمة على جواز المخاطبة بهذا اللفظ الآن وقال: {واسمعوا} أي قولوا ما أمرتكم به وامتثلوا جميع أوامري ولا تكونوا كاليهود في حملهم السماع على حقيقته وقولهم {سمعنا وعصينا} وعطف {وللكافرين} على غير معطوف عليه مذكور مرشد إلى أن التقدير: فإن السماع أي القبول إيمان وللسامعين نعيم كريم والإعراض كفر وللكافرين من اليهود وغيرهم {عذاب أليم}.
ولما أرشد ختم الآية إلى العلة الحاملة على الامتثال علل بعلة أخرى فقال: {ما يود الذين كفروا} مطلقاً {من أهل الكتاب} اليهود والنصارى {ولا} من المشركين بأي نوع كان من أنواع الشرك بغضاً فيكم حسداً لكم {أن ينزل عليكم} وأكد الاستغراق بقوله: {من خير من ربكم} أي المحسن إليكم، فكأنه قيل: للسماع علتان حاملتان عليه داعيتان إليه: إحداهما أخروية وهي النعيم للمطيع والعذاب للعاصي، والأخرى دنيوية وهي مخالفة الأعداء، فإنهم ما يودون أن ينزل عليكم شيء لكم فيه خير فضلاً عن أن تمتثلوه، ومخالفة الأعداء من الأغراض العظيمة للمتمكنين في الأخلاق الفاضلة من ذوي الأدوات الكاملة، ولم يعطف {ما يود} لأنه مع ذلك علة للعلة، فكأنه قيل: لهم عذاب أليم لأنهم يودون لكم خيراً؛ فسماعكم من جملة عذابهم، لأنه واقع على خلاف ودادتهم مع ما يدخر لهم في الآخرة بكفرهم وتمنيهم كفركم، ولا يخفى ما فيها وفي التي بعدها من التحريض على الكتاب الذي لا ريب فيه.
ولما بين سبحانه ما يودون أتبعه التعريف بأن له التصرف التام، رضي من رضي وسخط من سخط فقال معلقاً الأمر بالاسم الأعظم الجامع: {والله} أي ما يودون والحال أن ذا الأسماء الحسنى {يختص} ولما كان المنزل أتم الرحمة عبر عنه بقوله: {برحمته} التي وسعت كل شيء من الهداية والعلم وغير ذلك {من يشاء} أي يجعله مختصاً أي منفرداً بها من بين الناس، ولو كان عند غيره بمحل الاحتقار كما كان العرب عند بني إسرائيل لما كانوا يرون من جهلهم وضلالهم وجفائهم واختلال أحوالهم؛ والاختصاص عناية تعين المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره، والرحمة نحلة ما يوافي المرحوم في ظاهره وباطنه، أدناه كشف الضر وكف الأذى، وأعلاه الاختصاص برفع الحجاب- قاله الحرالي. ولما كان ذلك ربما أوهم أنه إذا فعله لم يبق من رحمته ما يسع غير المختص نفاه بقوله مصدراً له بالاسم الأعظم أيضاً عاطفاً على ما أفهمه الاختصاص من نحو أن يقال تعريضاً باليهود: فالله بمن يزوي عنه الرحمة عليم {والله} أي الملك الأعلى الذي له جميع العظمة والرحمة فلا كفؤ له {ذو الفضل العظيم} أي الذي لا يحصر بحد ولا يدخل تحت عد.


ولما حرم سبحانه قوله: {راعنا} بعد حله وكان ذلك من باب النسخ وأنهى ما يتعلق به بالوصف بالفضل العظيم بعد التخصيص الذي من مقتضاه نقل ما يكون من المنافع من ملك أو دين أو قوة أو علم من ناس إلى ناس، وكان اليهود يرون أن دينهم لا ينسخ، فكان النسخ لذلك من مطاعنهم في هذا الدين وفي كون هذا الكتاب هدى للمتقين، لأنه على زعمهم لا يجوز على الله، قالوا: لأنه يلزم منه البدا- أي بفتح الموحدة مقصوراً- وهو أن يبدو الشيء أي يظهر بعد أن لم يكن، وذلك لا يجوز على الله تعالى، هذا مع أن النسخ في كتابهم الذي بين أظهرهم، فإن فيه أنه تعالى أمرهم بالدخول إلى بيت المقدس بعد مقاتلة الجبارين، فلما أبوا حرم عليهم دخولها ومنعهم منه ومن القتال بالقدرة والأمر، كما ستراه عن نص التوراة في سورة المائدة إن شاء الله تعالى، وأمرهم بالجمعة فاختلفوا فيه، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي في قوله تعالى: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} [النحل: 124] واختاروا السبت، ففرض عليهم وشدد عليهم فيه وأحل لهم جميع اللحوم والشحوم، لما اتخذوا العجل حرم عليهم الشحوم؛ وأعظم من ذلك تعاطيهم من النسخ ما لم يأذن به الله في تحريفهم الكلم عن مواضعه، وتحريم الأحبار والرهبان وتحليلهم لهم ما شاؤوا من الأحكام التي تقدم عد جملة منها أصولاً وفروعاً، كما قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} [التوبة: 31]، ولما قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنهم لم يكونوا يعبدونهم، قال: «أليسوا يحلون لهم ويحرمون؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم لهم» كما هو مبين في السيرة في وفادة عدي؛ وكما فعلوا في إبدال الرجم في الزنا بالتحميم والجلد؛ وفي اتباع ما تتلو الشياطين مع أن فيه إبطال كثير من شرعهم؛ وفي نبذ فريق منهم كتاب الله؛ وفي قولهم: {سمعنا وعصينا} [البقرة: 93]، وفي اتخاذهم العجل مع النهي عن ذلك- وكل ما شاكله في كثير من فصول التوراة وفيما أشير إليه بقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة: 85] إلى غير ذلك، لما كان ذلك قال تعالى جواباً عن طعنهم سابقاً له في مظهر العظمة معلماً أنه قد ألبس العرب المحسودين ما كان قد زين به أهل الكتاب دهوراً فابتذلوه ودنسوا محياه ورذلوه وغيروه وبدّلوه إشارة إلى أن الحسد لكونه اعتراضاً على المنعم يكون سبباً لإلباس المحسود ثوب الحاسد: {ما ننسخ} والنسخ قال الحرالي: نقل بادٍ من أثر أو كتاب ونحوه من محله بمعاقب يذهبه.
أو باقتباس يغني عن غيبته وهو وارد الظهور في المعنيين في موارد الخطاب؛ والمعاقبة في هذا أظهر- انتهى. وساقها بغير عطف لشدة التباسها بما قبلها لاختصاصنا لأجل التمشية على حسب المصالح بالفضل والرحمة، لأنه إن كان المراد نسخ جميع الشرائع الماضية بكتابنا فلما فيه من التشريف بالانفراد بالذكر وعدم التبعية والتخفيف للأحمال التي كانت، وإن كان المراد نسخ ما شرع لنا فللنظر في المصالح الدنيوية والأخروية بحسب ما حدث من الأسباب {من آية} أي فنرفع حكمها، أو تلاوتها بعد إنزالها، أو نأمر بذلك على أنها من النسخ على قراءة ابن عامر، سواء كانت في شرع من قبل كاستقبال بيت المقدس أو لم تكن؛ وفي صيغة نفعل إشعار بأن من تقدم ربما نسخ عنهم ما لم يعوضوا به مثلاً ولا خيراً، ففي طيه ترغيب للذين آمنوا في كتابهم الخاص بهم وأن يكون لهم عند النسخ حسن قبول فرحاً بجديد أو اغتباطاً بما هو خير من المنسوخ، ليكون حالهم عند تناسخ الآيات مقابل حال الآبين من قبوله المستمسكين بالسابق المتقاصرين عن خير لاحق وجدِّته- قاله الحرالي: {أو ننسأها} أي نؤخرها، أي نترك إنزالها عليكم أصلاً، وكذا معنى {أو نُنسها} من أنسى في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو، أي نأمر بترك إنزالها {نأت بخير منها أو مثلها} كما فعلنا في {راعنا} وغيرها. أو يكون المعنى {ما ننسخ من آية} فنزيل حكمها أو لفظها عاجلاً كما فعلنا في {راعنا} أو {ننسأها} بأن نؤخر نسخها أو نتركه- على قراءة {ننسها} زمناً ثم ننسخها كالقبلة {نأت} عند نسخها {بخير منها أو مثلها}،، وقال الحرالي: وهو الحق إن شاء الله تعالى. والنسء تأخير عن وقت إلى وقت، ففيه مدار بين السابق واللاحق بخلاف النسخ، لأن النسخ معقب للسابق والنسء مداول للمؤخر، وهو نمط من الخطاب عليٌ خفي المنحى، لم يكد يتضح معناه لأكثر العلماء إلا للأئمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم لخفاء الفرقان بين ما شأنه المعاقبة وما شأنه المداولة. ومن أمثاله ما وقع في النسء من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الأضاحي فتقبله الذين آمنوا نسخاً، وإنما كان إنساء وتأخيراً لحكم الاستمتاع بها بعد ثلاث إلى وقت زوال الدافّة التي كانت دفت عليهم من البوادي، فلم يلقن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى فسره فقال: «إنما نهيتكم من أجل الدافة»، ففي متسع فقهه أن أحكاماً تؤخر فتشابه النسخ من وجه ثم تعاد فتخالفه من هذا الوجه من حيث إن حكمة المنسوخ منقطعة وحكمة المنَسء متراجعة. ومنه المقاتلة للعدو عند وجدان المنة والقوة والمهادنة عند الضعف عن المقاومة هو من أحكام المنسء، وكل ما شأنه أن يمتنع في وقت لمعنى مّا ثم يعود في وقت لزوال ذلك المعنى فهو من المنَسء الذي أهمل علمه أكثر الناظرين وربما أضافوا أكثره إلى نمط النسخ لخفاء الفرقان بينهما؛ فبحق أن هذه الآية من جوامع آي الفرقان، فهذا حكم النسء والإنساء وهو في العلم بمنزلة تعاقب الفصول بما اشتملت عليه من الأشياء المتعاقبة في وجه المتداولة في الجملة.
قلت: وحاصله تأخير الحل كما ذكر أو الحرمة كما في المتعة ونحو ذلك إلى وقت آخر وذلك هو مدلول النسء على ما كانت العرب تتعارفه كما سيأتي تحريره في سورة براءة عند {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة: 37] قال: وأما النسيان والتنسية فمعناه أخفى من النسيء وهو ما يظهره الله من البيانات على سبيل إدخال النسيان على من ليس شأنه أن ينسء كالسنن التي أبداها النبي صلى الله عليه وسلم عن تنسيته كما ورد من قوله: إني لأُنَسَّى لأسُنَّ. وقال عليه الصلاة والسلام في إفصاح القول فيه: «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت، بل هو نُسي» ومنه قيامه من اثنتين وسلامه من اثنتين حتى أظهر الله سنة ذلك لأمته، وكانت تلك الصلاة بسهوها ليست بدونها من غير سهو بل هي مثلها أو خير؛ ومن نحوه منامه عن الصلاة حتى أظهر الله توقيت الصلاة بالذكر كما كان قد أظهرها بالوقت الزماني، فصار لها وقتان: وقت نور عياني من مدارها مع الشمس، ووقت نور وجداني من مدارها مع الذكر، ولصحة وقوعها للوقتين كانت الموقتة بالذكر أداء بحسبه، قضاء بحسب فوت الوقت الزماني؛ فللّه تعالى على هذه الأمة فضل عظيم فيما يكمل لها على طريق النسخ وعلى سبيل النسء وعلى جهة النسيان الذي ليس عن تراخ ولا إهمال وإنما يوقعه إجباراً مع إجماع العزم، وفي كل ذلك إنباء بأن ما وقع من الأمر بعد هذا النسيان خير من موقع ذلك الأمر الذي كان يقع على إجماع ورعاية لتستوي أحوال هذه الأمة في جميع تقلبات أنفسها، كل ذلك من اختصاص رحمته وفضله العظيم- انتهى. واستدل سبحانه على إتيانه بذلك بقدرته، والقدرة الشاملة التامة مستلزمة للعلم أي وليس هو كغيره من الملوك إذا أمر بشيء خاف غائلة أتباعه ورعاياه في نقضه، واستدل على القدرة بأن له جميع الملك وأنه ليس لأحد معه أمر، وحاصل ذلك أنه لما ذكر سبحانه هذا الكتاب وأكد أمره مراراً وكان ناسخاً لفروع شريعتهم ولا سيما ما فيها من الآصار والأغلال أشار سبحانه إلى أن من أعظم ضلالهم وغيهم ومحالهم، ادعاؤهم أن النسخ لا يجوز على الله، فمنعوا من {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23] مما هو موجود في كتابهم كما أمر آنفاً، ومما سوغوه لأنفسهم بالتحريف والتبديل، ولزم من ذلك تكذيب كل رسول أتاهم بما لا تهوى أنفسهم، وفعلوا خلاف حال المؤمنين المصدقين بما أنزل إلى نبيهم وما أنزل إلى غيره، وضمن ذلك عيبهم بالقدح في الدين بالأمر بالشيء اليوم والنهي عنه غداً، وأنه لو كان من عند الله لما تغير لأنه عالم بالعواقب، ولا يخلو إما أن يعلم أن الأمر بذلك الشيء مصلحة فلا ينهى عنه بعدُ، أو مفسدة فلا يأمر به اليوم، جوابهم عن ذلك معرضاً عن خطابهم تعريضاً بغباوتهم إلى خطاب أعلم الخلق بقوله: {ألم تعلم أن الله} أي الحائز لجميع أوصاف الكمال {على كل شيء قدير} على وجه الاستفهام المتضمن للإنكار والتقرير المشار فيه للتوعد والتهديد، فيخلق بقدرته من الأسباب ما يصير الشيء في وقت مصلحة وفي وقت آخر مفسدة لحكم ومصالح دبرها لتصرم هذا العالم.
ويقضي هذا الكون بشمول علمه بكل ما تقدم وما تأخر. ولو أراد لجعل الأمر على سنن واحد والناس على قلب رجل واحد {ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً} [يونس: 99] {لجعل الناس أمة واحدة} [هود: 118] ولكنه مالك الملك وملك السماوات والأرض، يتصرف على حسب ما يريد، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا يسوغ الاعتراض عليه بوجه، وهل يجوز أن يعترض العبد الذي لا ينفك أصلاً من الرق على السيد الثابت السودد على أنه لا يلزمه شيء أصلاً فلا يلزمه الأمر على حسب المصالح؛ ثم أتبع ذلك بما هو كالدليل على شمول القدرة فقال: {ألم تعلم أن الله} الجامع لأنواع العظمة {له ملك السماوات والأرض} يفعل في ذواتهما وأحوالهما ما يشاء. قال الحرالي: فهو بما هو على كل شيء قدير يفصل الآيات، وهو بما له ملك السماوات والأرض يدبر الأمر- انتهى.
ولما أتم سبحانه ما أراد من إظهار قدرته وسعة ملكه وعظمته بالاسم العلم الذي هو أعظم من مظهر العظمة في ننسخ وننسا بالإقبال على خطاب من لا يعلم ذلك حق علمه غيره فتهيأت قلوب السامعين وصغت لفت الخطاب إليهم ترهيباً في إشارة إلى ترغيب فقال: {وما لكم من دون الله} المتصف بجمع صفات العظمة {من ولي} يتولى أموركم، وهو من الولاية، قال الحرالي: وهي القيام بالأمر عن وصلة واصلة {ولا نصير} فأقبلوا بجميع قلوبكم إليه ولا تلفتوها عنه، وفي ذلك تعريض بالتحذير للذين آمنوا ولم يبلغوا درجة المؤمنين من مخالفة أمره إذا حكم عليهم بما أراد كائناً ما كان لئلا تلقن بواطنهم عن اليهود نحواً مما لقنت ظواهر ألسنتهم، بأن تستمسك بسابق فرقانها فتتثاقل عن قبول لاحقه ومكمله، فيكون ذلك تبعاً لكثرة أهل الكتاب في إبائها نسخ ما لحقه التغيير من أحكام كتابها- أفاده الحرالي وقال: وهو في الحقيقة خطاب جامع لتفصيل ما يرد من النسخ في تفاصيل الأحكام والأحوال بمنزلة الخطاب المتقدم في صدر السورة المشتمل على جامع ضرب الأمثال في قوله تعالى:
{إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما} [البقرة: 26] الآية، وذلك لأن هذه السورة هي فسطاط القرآن الجامعة لجميع ما تفصّل فيه؛ وهي سنام القرآن، وسنام الشيء أعلاه؛ وهي سيدة سور القرآن؛ ففيها لذلك جوامع ينتظم بعضها ببعض أثر تفاصيله خلالها في سنامية معانيها وسيادة خطابها نحواً من انتظام آي سورة الفاتحة المنتظمة من غير تفصيل وقع أثناءها ليكون بين المحيط الجامع والابتداء الجامع مشاكلة مّا- انتهى. ولما كان رسخ ما ذكره سبحانه من تمام قدرته وعظيم مملكته وما أظهر لذاته المقدس من العظم بتكرير اسمه العلَم وإثبات أن ما سواه عدم فتأهلت القلوب للوعظ صدعها بالتأديب بالإنكار الشديد فقال: {أم} أي أتريدون أن تردوا أمر خالقكم في النسخ أم {تريدون أن} تتخذوا من دونه إلهاً لا يقدر على شيء بأن {تسألوا رسولكم} أن يجعل لكم إلهاً غيره {كما سئل موسى} ذلك. ولما كان سؤالهم ذلك في زمن يسير أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل هذا الزمان إذ قال قومه بعد ما رأوا من الآيات وقد مرّوا بقوم يعكفون على أصنام لهم: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} [الأعراف: 138] وقالوا: {أرنا الله جهرة} [النساء: 153]. وقالوا: {لن نصبر على طعام واحد} [البقرة: 61] وكانوا يتعنتون عليه في أحكام الله بأنواع التعنتات كما تقدم. والإرادة في الخلق نزوع النفس لباد تستقبله- قاله الحرالي. وأدل دليل على ما قدرته قوله عطفاً على ما تقديره: فيكفروا فإنه من سأل ذلك فقد تبدل الكفر بالإيمان {ومن يتبدل الكفر بالإيمان} أي يأخذ الكفر بدلاً من الإيمان بالإعراض عن الآيات وسؤال غيرها أو التمسك بما نسخ منه، وعبر بالمضارع استجلاباً لمن زل بسؤال شيء من ذلك إلى الرجوع بالتوبة ليزول عنه الاستمرار فيزول الضلال {فقد ضل سواء السبيل} أي عدله ووسطه فلم يهتد إليه وإن كان في بينات منه، فإن من حاد عن السواء أوشك أن يبعد بعداً لا سلامة معه {وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] وكثيراً ما كان يتزلزل طوائف من الناس عند تبدل الآيات وتناسي الأحكام وبحسب ما يقع في النفس من تثاقل عنه أو تحامل على قبوله يلحقه من هذا الضلال عن سواء هذا السبيل؛ وفيه إشعار بأن الخطاب للذين آمنوا، لأن المؤمنين المعرفين بالوصف لا يتبدل أحوالهم من إيمان الكفر، لأن أحداً لا يرتد عن دينه بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} [البقرة: 256] {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى}؛ [لقمان: 22] وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً بعد أن أعطاكموه» فبذلك يتضح مواقع خطاب القرآن مع المترتبين في أسنان القلوب بحسب الحظ من الإيمان والإسلام والإحسان- قاله الحرالي. وعرف {السبيل} بأنه المشتمل على قوام السائر فيه والسالك له من نحو الرعي والسقي وشبهه، والسواء بأنه من الشيء أسمحه بالأمر الذي قصد له، قال: ويقال هو وسطه وخياره.
ولما كان أكثر المثيرين لهذه الشكوك في صور أهل الإسلام قال تعالى مخاطباً للمؤمنين وهم في غمارهم تنفيراً لهم عن الضلال الذي هو في نفسه أهل لأن ينفر عنه فكيف وهو شماتة العدو وبتخييله وودادته تحذيراً لهم من مخالطتهم: {ود كثير} وهو تعليل لمعنى الكلام وهو: فلا تتبدلوا الكفر بالإيمان، بعد تعليله بالضلال؛ وذلك كما مضى في {ما يود الذين كفروا} [البقرة: 105] سواء.
ولما كان المشركون عرباً عالمين بأن طبع العرب الثبات لم يدخلهم معهم في هذا الود وقال: {من أهل الكتاب} فأنبأ أن المصافي منهم قليل وبشر سبحانه بأن ما يودونه من قسم المحال بسوقه سوق المتمني فقال: {لو يردونكم} أي بأجمعكم؛ ثم حقق أمر التمني في كونه محالاً مشيراً بإثبات الجار إلى قناعتهم به ولو في زمن يسير فقال: {من بعد إيمانكم} أي الراسخ {كفاراً} أي لتكونوا مثلهم فتخلدوا معهم في النار {حسداً} على ما آتاكم الله من الخير الهادي إلى الجنة، والحسد قلق النفس من رؤية النعمة على الغير، وعبر عن بلوغ الحسد إلى غاية لا حيلة معها في تركه بقوله: {من عند أنفسهم} أي إنه راسخ في طبائعهم فلا تطمعوا في صرفه بشيء، فإن أنفسهم غالبة على عقولهم، ثم زاده تأكيداً بقوله مشيراً بإثبات الجار إلى ذمهم بأنهم استمروا على الضلال بعد الدعوة، لا يطلبون الحق مع القدرة على تعرفه، حتى هجم عليهم بيانه وقهرهم عرفانه، ثم لم يرجعوا إليه؛ وما كفاهم ضلالهم في أنفسهم حتى تمنوا إضلال غيرهم بالرجوع عنه {من بعد ما تبين} أي بياناً عظيماً بوضوحه في نفسه {لهم الحق} أي من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم النبيين المرسل إلى الناس كافة بشهادة ما طابقه من التوراة، ومن أنهم خالدون في النار، لأنهم ممن أحاطت به خطيئته بما دل عليه سبحانه في جميع هذه الآيات إبطالاً لدعواهم في مس النار لهم أياماً معدودة.
ثم أرشد إلى الدواء بقوله مسبباً عن الإخبار بأن ودهم محال وبعدم رجوعهم: {فاعفوا} أي عاملوهم معاملة العافي بأن لا تذكروا لهم شيئاً مما تظهره تلك الودادة الناشئة عن هذا الحسد من الأقوال والأفعال ولا تأخذوا في مؤاخذتهم به، فإنهم لا يضرونكم ولا يرجعون إليكم، {واصفحوا} أي أظهروا لهم أنكم لم تطلعوا على شيء من ذلك، وأصل معناه من الإعراض بصفحة العنق عن الشيء كأنه لم يره، وأمرهم بمطلق الصفح ولم يفيده بالجميل الذي اختص به خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم في قوله:
{فاصفح الصفح الجميل} [الحجر: 85] لتنزل الخطاب على مراتبه ومستحق مواقعه. وحثهم على أن يكون فعلهم ذلك اعتماداً على تفريجه سبحانه بقوله: {حتى يأتي الله} الذي لا أمر لأحد معه {بأمره} فبشرهم بذلك بظهورهم على من أمروا بالصفح والعفو عنهم، وقد كان مبدأ ذلك ويتم في زمن عيسى عليه السلام.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9